قصة : أحمد الليثى الشرونى
" مسحة من نور "
انسحب فجأة من بيننا ودخل الحجرة المغلقة منذ سنوات , منذ أن رحل والدنا لم يدخلها أحد , إنها حجرة غارقة في الصمت والظلام , بعد أن دخل أغلق الباب جيداً ولمحنا نوراً خفيفاً يطل من طاقة أعلي الباب , يبدو أنه ضوء شمعة , عاد بنا " أبو فتحي " إلي سرد الحكايات الجميلة , ونحن جالسون تحت النخلة التي تتوسط فسحة البيت الكبير , بدأ القمر يطل علينا فازدادت الحكايات متعة , ضحكنا كثيراً في هذه الليلة , لم ننتبه إليه حين خرج من الحجرة وأطفأ الشمعة .
تنبأ له شيخ الكتَّاب حينما كان صغيراً وقال إن هذا الولد سيصبح له شأن فى المستقبل ، كان أكثرنا التزاماً وحفظاً للقراّن الكريم , وأقلنا لهواً وشقاوة , أشتري له أبوه مهراً صغيراً كي يفتخر به وسط أقرانه , كثيراً ما كان يسير به وسط شوارع القرية الضيقة ممتطياً ظهره بدون سرج , صارت بينه وبين المهر علاقة خاصة أرضت أباه الذي يتمناه فارساً يفتخر به وسط الفرسان في سباق الخيول التي تقام في ليالي الاحتفال بموالد الأولياء في القري المجاورة ، ظل هذا الحلم يراود أباه حتى دخل الجامعة ، فبدأت مسيرة حياته تتغير تماماً , انصرف عن ركوب الحصان وطلب من أبيه أن يبيعه أو يبحث له عن فارس آخر من بين اخوته , حزن أبوه لأنه كان يري فيه الفروسية التي اشتهرت بها عائلته .
حينما كنا نذهب إلي الترعة في أيام الصيف نصطاد السمك كان أكثرنا حظاً , يعود في آخر النهار برزق وفير , وكانت جدته تقول : ( إن هذا الولد رزقه في رجليه ) .
حتى البنت التي أحبها في صغره كانت تجلس مقابلة له في المقعد الأول ,كان يتبادل معها الحب همساً , وهي أجمل بنت في الفصل من بلاد بحري وكان أبوها يعمل مهندساً في شركة محاجر , كانت بيضاء ممتلئة الجسم عيناها نجلاوان وشعرها أسود فاحم بضفيرتين , ظل يحبها حتى نهاية الصف الثالث الإعدادي بعدها سافرت مع أسرتها إلي القاهرة ولم يعد يراها ، فأصبح حبها ذكري جميلة يطل عليها من حين لاّخر , فيشعر بدفً يسري في جسده .
انحرط في القراءة وأصبحت حياته ما بين الجامعة والقراءة , كانت أمه تخشى علي عينيه من كثرة القراءة .
حتى بعد أن أشتهر لم يترك قريته , ظل متشبثاً بها , بني له بيتاً صغيراً بجوار البيت الكبير وعاش فيه , لقد تحققت نبوءة " الشيخ سليمان " شيخ الكتَّاب فيه ولكن بعد رحيله ، الذي أحزننا رغم قسوته علينا أثناء حفظ القرآن .
في اليوم التالي ذهب وأشتري مبرد مياه كبير ووضعه في مسجد القرية , أشرف علي توصيل المياه إليه , لم يمش إلا بعد أن شرب منه كوب ماء بارد ، صلي العشاء في المسجد جماعة , بعدها خرج وزار أصدقاء الطفولة ورفاق كتَّاب "الشيخ سليمان " , ثم مر علينا ونحن جلوس في فسحة البيت تحت النخلة كالعادة رد علينا التحية ثم انصرف إلي الحجرة المظلمة مرة أخري , دخل وأغلق الباب ثم رأينا نفس الضوء الذي رأيناه ليلة البارحة , يسحبنا " أبو فتحي " إلي الحكايات الجميلة الممتعة ، يتوغل الليل فينا و تضربنا نسمات الهواء الخريفية ، ولذا لم نشعر به عندما خرج من الحجرة .
في صباح اليوم التالي راحت زوجته تيقظه من النوم وجدته مبتسماً وعيناه تنظران إلي أعلي , أطلقت صرخة مدوية اهتزت لها جدران البيت الكبير .
بعد أيام العزاء رحنا نجلس تحت النخلة في فسحة البيت الكبير، وعلي حين غرة لمحنا ضوءاً خفيفاً يخرج من الطاقة أعلى الباب , أصابنا الفزع وتخيلنا أنه موجود داخل الغرفة , ذهبنا وفتحنا الباب , وسط الظلام لمحنا ثوباً عليه مسحة من نور فردناه فكان كفناً أبيض حاكه بيديه , سالت دموعنا دون أن ندري, أخذنا الكفن ووضعناه في المسجد بجوار مبرِّد المياه ليكون صدقة جارية علي روحه الطيبة .
___________________________________________________________