بقلم : أحمد الليثى الشرونى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فن النميم ....
فن النميم هو أحد فنون الأدب الشعبي العربي، وينتشر في محافظات الصعيد وتحديداً في محافظتي أسوان والبحر الأحمر، حيث ملاءمة الظروف لنشوء هذا الإبداع الذي يقوم على تشكيله فنياً مبدعون ينتمون إلى بعض القبائل العربية كالعبابدة والجعافرة والعليقات. هذه القبائل التى جاءت نازحة من شبه الجزيرة العربية أثناء الفتح الإسلامى لمصر ، واستقرت معظم هذه القبائل فى صعيد مصر .
تقام ليالي أو أمسيات جر النميم فى المناسبات الاجتماعية المتعددة مثل الزفاف ، وليالى الحنة ، وختان الولد والاحتفال بالذهاب على الأراضى الحجازية لأداء فريضة الحج ، وكذلك أحيانا للاحتفال بموالد الأولياء ويحدث ذلك من محبى وعشاق هذا الفن ، تعددت التفسيرات حول مصطلح "النميم" ، هناك تفسير يقول أنه مشتق من نمّ حيث تزايد الحديث وتصاعده بين الشعراء، فالمقطع الشعري للشاعر الأول يثير الشاعر الآخر ليزيد ويبني ويبين القول بوصف أجمل إبداعاً من سابقه وتستمر الحالة الإبداعية هكذا فى تزايد وصعود ، حيث يحاول كل منهما أن يعبر أفضل من الآخر حتى يحظى برضا مشجعيه من أبناء قبيلته ومحبيه ، وهناك تفسير آخر : نمنم الشئ أي زخرفه وبرقشه، والمنمنم: الشئ الذي كثرت نقوشه وزينته ففي فن النميم يحاول كل شاعر أن يكون إبداعه بليغا ومعبرا ومزخرفا بالمفردات والمحسنات ، وتفسير آخر ينبثق من بعض الآراء التى تميل إلى أن الشاعر يئن من أعماقه عندما يبدع حتى يسمعه الجمهور ويتشوق لما سيطرحه .
فن النميم" شعر شعبي عربي فيه إظهار لما يجول بخاطر الشاعر من معان وأحاسيس ووجدان، من خلال مفردات وأوزان لينم عن مكنون ذاته، وما يختلج بصدره في إطار من وجدان جماعته الشعبية بالفطرة وما خزنته ووعته الذاكرة من إبداع أسلافه، هادفا خلال المفارقة الشعرية التفوق على أقرانه من الشعراء المشاركين له ، حيث يحاول كل منهما أن ينمنم ويزخرف إبداعه الشعري ليأتي تعبيرا صادقا مؤثرا على المتلقين لإبداعهم من جماعتهم الشعبية .
كما أن فن النميم إبداع شعبي أصيل، فهو شعر تلقائي يُلقي ولا يُكتب ويأتي وليد الصدفة دون ترتيب أو إعداد مسبق من الشاعر ولكنه يأتي معبراً عن روح الجماعة الشعبية ، وإن كان إبداعا فرديا حيث يبدع الشاعر بمفرداته متأثراً بما حفظته ووعته الذاكرة من أسلافه شعراء النميم والذي شكل حصيلة إبداعه الفكري وتتكون قولة النميم أو المقطع الشعري من مربع متحد القافية والوزن وقد تتحد القافية في نهاية الشطرات كجناس ناقص ، وقد تتحد كجناس تام ، وتؤكد بعض المصادرأن فن النميم ذو جذور سودانية، وأنه قدم إلى مصر عن طريق قوافل تجارة الإبل بين السودان ودراو بأسوان، وكذلك كان الأمر في حلايب وشلاتين بمحافظة البحر الأحمر، والنميم نتاج بعض فنون الشعر الشعبي السوداني وبخاصة :الحردلو" و"المربع". ولكن فيما بعد استطاع شعراء الجنوب أن يستوعبوا هذا الفن وأعادوه مرة أخرى بشكل مصرى أصيل وأطلقوا عليه هذا الإسم .
يطلق على الأمسية الشعرية أو المطارحة لهذا الفن مصطلح "جر النميم" حيث يبني الشاعر مقطعه الشعري على مقطع سابقه ، ويأتي الإبداع في شكل سلسلة متنوعة الحلقات في التشكيل والبناء، ولكن في ذات الغرض الشعريو تبدأ أمسية جر النميم من بعد صلاة العشاء حتى قبيل أذان الفجر، وتسير وفق منهج صارم حيث يبدأ الشعراء واحد تلو الآخر فى إلقاء مقطعه الشعري الذى لابد وأن تكون بدايته البسملة والصلاة على الرسول الكريم ثم السلام على الحاضرين وأهل البلد ثم يتناول الشعراء الغرض الشعري الذى يطلبه المتلقون منهم ، ومن الممكن أن يكون غلرضاً واحداً أو عدة أغراض ، تنم المطارحة والتبارى الشعري ، وكل شاعر يؤدى مقطعه الشعري بعد تفكير عميق يستدعى من ذاكرته ما حفظته من أسلافه وما أعده بذهنه أثناء خلوته بنفسه انتظار لدوره فى الأداء هادفا التفوق على أقرانه من الشعراء ليرون المستمعين وينال استحسانهم ، ليظفر بلقب فارس الليلة ، ويشجعونه صائحين : أبشر .. أبشر .....
هذا الفن شائع لدى عرب العقيلات المنتشرة فى أسوان وخاصة فى منطقة دراو وجعلوه نوعا من المنافسة ، وإنهم يفتخرون بهذا لفن وخاصة أن الشاعر منهم قادر أن يجر النميم من العشاء وحتى مطلع الفجر دون ملل، وأذكر لكم مقطعا بسيطا من هذا الفن :
أهديكم سلام 00 على قد حالى 00 يكون
بعدد ما خلق 00 رب العباد 00 ف الكون
عدد ماكان 00 واللـــــى ما 00 ب يكون
شايفنو فى حقكم 00 قليلا 00 مابيــكون
المكان الذى تعقد فيه المطارحة الشعرية تطلق عليه عدة أسماء منها :
المجال/ السامر/ المجلس / القعدة . وتبدأ المطارحة بعد اكتمال القعدة بجلوس الشعراء فى مكان مميز ، غالبا ماتكون على فرش من الحصير البلاستيك عليها مفارش من الصوف وتوضع خلف ظهورهم مساند يتكئون عليها ويجلس أمامهم جمهور المتلقين على الأرض على شكل فريقين أو أكثر حسب عدد الشعراء المتنافسين ، ويلتزم الجمهور الصمت التام أثناء إلقاء الشاعر شعره ، وأحياناً يكون الجلوس على دكك خشبية مفروشة ، ثم ترفع الخانة ــ هكذا يطلق عليها ــ وتعنى المقطع الشعرى الذى يسير علي نظمه الشاعر ، وتبدأ المنافسة بينهم ويحرس كل شاعر قول منافسه بدقة حتى لا يكرر ماقاله أو حتى يجود قوله مما يكسبه لقب
فارس الليلة ، وربما يكون لنا لقاء آخر حول هذا الفن الشعبى الجميل ....