بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه وحديثاً . والصلاة والسلام على نبيه الظاهرة والباطنة(1) قديماً ورسوله محمدٍ وآله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيراً حثيثاً(2)، وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم ـ والعلماء ورثة الأنبياء ـ أكرم بهم وارثاً وموروثاً .
أما بعد: فهذا مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية، للأحكام الشرعية، حررته تحريراً بالغاً، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً(3)،ويستعين به الطالب المبتدي، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي .
وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة، لإرادة نصح الأمة . فالمراد بالســــبعة(4): أحمد والبخاري ومسلم أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وبالستة من عدا أحمد، وبالخمسة من عدا البخاري ومسلماً، وقد أقول الأربعة وأحمد، وبالأربعة من عدا الثلاثة الأول، وبالثلاثة من عداهم والأخير، وبالمتفق(5)البخاري ومسلم وقد لا أذكر معهما غيرهما، وما عدا ذلك فهو مبين . وسميته: بلوغ المرام من أدلة الأحكام .
والله أسأل أن لا يجعل ما علمناه عليناً وبالاً، وأن يرزقنا العلم بما يرضيه سبحانه وتعالى .
(1) عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e في البحر: (( هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) أخرجه لأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي .
درجة الحديث:
قال الصنعاني(1): قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: حديث صحيح .
سبب ورود الحديث:
الحديث وقع جواباً عن سؤال، وهو أنه جاء رجل من بني مدلج اسمه عبد الله، إلى النبي e، فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر ؟
فقال رسول الله e: الحديث .
شرح الغريب:
1ـ الطهور: بمعنى المطهر .
2ـ الحل: الحلال .
3ـ ميتته: الميتة: هي مأكول اللحم إذا مات حتف أنفه أو بغير ذكاة شرعية، وغير مأكول اللحم إذا مات على أي جهة كان .
ما يستفاد من الحديث:
1ـ حرص الصحابة y على العلم والفتوى .
2ـ أن ماء البحر طاهر مطهر .
3ـ أن جميع حيوانات البحر حلال وإن كان كالكلب والخنزير .
4ـ جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل تتميماً للفائدة .
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء فيما يحل من ميتة البحر:
1ـ ذهب جمهور أهل العلم إلى أن جميع ميتات البحر ـ مما تعيش فيه ـ حلال، وإن كان كالكلب والخنزير .
2ـ وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يحل منها إلا السمك .
الترجيح:
والراجح إباحة جميع حيوان البحر بلا استثناء لقوله e: (( الحل ميتته )) .
(2) عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله :e (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد .
درجة الحديث:
قال الألباني في صحيح سنن أبي داود (60): صحيح .
سبب ورود الحديث:
قيل لرسول الله e: أنتوضأ من بئر بُضاعة، وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن، فقال: الحديث .
شرح الغريب:
1ـ بئر بُضاعة: بئر في المدينة، قال أبو داود: سألت قيم بئر بُضاعة عن أكثر ما يكون فيها الماء، فقال إلى العانة، فقلت: فإذا نقص، فقال دون العورة، قال أبو داود: ذرعت بئر بُضاعة فإذا عرضها ستة أذرع، قال: ورأيت فيها ماءً متغيراً .
2ـ يطرح: يلقى .
3ـ الحيض: دم ينزل من المرأة يرخيه الرحم، يكون علامة على بلوغها وصحتها .
ما يستفاد من الحديث:
1ـ الأصل في المياه الطهارة .
2ـ أن الماء لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه إلا إن تغير وصف من أوصافه الثلاثة: اللون أو الطعم أو الريح .
3ـ لا فرق في تنجيس الماء بين القليل والكثير، وإنما العبرة بالتغير .
(3) وعن أبي أمامة الباهلي t قال: قال رسول الله e: (( إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه )) أخرجه ابن ماجه، وضعفه أبو حاتم .
درجة الحديث:
قال صدّيق حسن خان في الروضة الندية: اتفق العلماء على ضعف هذه الزيادة، لكن وقع الإجماع على مضمونها . اهـ .
وعلة الحديث: أن فيه رشدين بن سعد وهو متروك الحديث .
فائدة: قال ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح:
إذا أجمعت الأمة على العمل بمعنى الحديث الضعيف يعمل بمعناه، ولا يكون ذلك تصحيحاً له .
وللبيهقي: (( الماء طاهر إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسةٍ تحدث فيه )) .
درجة الحديث:
الحديث ضعيف أيضاً، في سنده بقية بن الوليد، وهو مدلس وقد عنعنه .
(4) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e: (( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )) وفي لفظ: (( لم ينجس )) أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم .
درجة الحديث:
قال الألباني في صحيح سنن أبي داود (56و58): صحيح .
سبب ورود الحديث:
أنه e سئل عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: الحديث ..
شرح الغريب:
1ـ قُلتين: بضم القاف: الجرة الكبيرةمن الفخار، والجمع قِلال بكسر القاف .
والقلتان: خمسمائة رطل عراقي، ما يعادل: 190 ليتر تقريباً .
2ـ الخبث: بفتحتين: هو النجس .
3ـ لم ينجس: لم: حرف نفي، وجزم، وقلب .
والنجاسة: كل عين يحرم تناولها، لا لحرمتها، ولا لضررها، ولا لاستقذارها .
ما يستفاد من الحديث:
1ـ حرص الصحابة على العلم والفتوى .
2ـ أن سؤر السباع والدواب نجس .
3ـ أن الماء إذا بلغ قلتين فإنه يدفع عن نفسه النجاسة ولا تؤثر فيه غالباً، وهكذا كلما كان الماء كثيراً كلما تحمّل النجاسة وفتتها، وهذا منطوق الحديث .
4ـ ودل الحديث بمفهومه: أن ما دون القلتين قد تؤثر فيه النجاسة، فينجس بملاقاتها . وقد لا ينجس بذلك .
نبذة عن خلاف أهل العلم في هذا الحديث:
وقد اختلف أهل العلم في الماء إذا حلَّت فيه نجاسة وكان دون القلتين:
1ـ فذهب الشافعية، والمشهور من مذهب أحمد، إلى أنه يتنجس ولو لم يتغير فيه شيء عملاً بمفهوم الحديث .
2ـ وذهب الحنفية إلى أنه يفرّق بين القليل والكثير، ولكنهم حدّوا القليل بما إذا كان أقل من عشرة أذرع بعشرة أذرع، أو إذا حرَّكت أحد طرفيه تحرك الطرف الآخر، فهذا الذي ينجس بالنجاسة وإن لم يتغير عملاً بالنظر والرأي والاجتهاد .
3ـ وذهب المالكية، وقول في مذهب أحمد، والشوكاني، إلى أن العبرة بالتغير، ولا فرق بين قليل وكثير وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى(1).
الترجيح:
والراجح ما ذهب إليه الإمام مالك والشوكاني وغيرهم، لأن الشريعة تبني الأحكام على الأوصاف المؤثرة، ولا وصف يحكم على الماء هنا إلا مفهوم الحديث المذكور، والمفهوم يعمل به ما لم يخالف نصاً منطوقاً، وقد خالف هنا حديث أبي سعيد t . فلا يعمل بالمفهوم .
(5) وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: (( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )) أخرجه مسلم . وللبخاري: (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه )) . ولمسلم : (( منه )) ولأبي داود: (( ولا يغتسل فيه من الجنابة )) .
درجة الحديث:
حديث أبي داود: قال عنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (63): حسن صحيح .
شرح الغريب:
1ـ لا يغتسل: لا الناهية، يطلب بها ترك الفعل .
2ـ الدائم: الساكن الذي لا يجري .
ما يستفاد من الحديث:
1ـ النهي عن الاغتسال في الماء الدائم .
2ـ أن النهي يقتضي التحريم فيحرم الاغتسال في الماء الدائم .
3ـ النهي عن البول في الماء الدائم ثم الاغتسال فيه .
4ـ أ ـ رواية مسلم تفيد النهي عن الاغتسال بالانغماس فيه .
ب ـ رواية البخاري تفيد النهي عن الجمع بين البول والاغتسال .
ج ـ رواية أبي داود تفيد النهي عن كل واحد منهما على الانفراد .
فحصل من جميع الروايات أن الكل ممنوع .
5ـ تحريم التغوط والاستنجاء في الماء الراكد الذي لا يجري .
6ـ تحريم أذية الناس وإلحاق الضرر بهم .
فائدة: يخص من ذلك المياه المستبحرة باتفاق العلماء .
(6) وعن رجل صحب النبي e قال: (( نهى رسول الله e أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرآة