[جملة ما ورد الشرع بتحريمه من أفعال القلوب]
وجملة ما ورد الشرع بتحريمه منها سبعة عشر نوعاً وهي: الكبر وما يتفرع منه، والعُجب، والرياء والمباهاة والمكاثرة والحسد والغل وظن السوء، والمعاداة والموالاةوالحمية والمداهنة وحب الدنيا والجبن والبخل وما يتصل بهما من السرف والتقتير، والزهو والفرح ويلحق بذلك بيان الخطر المخوف بعد حصول العلم والعمل والاخلاص، فلنفرد لكل من ذلك فصلاً.
[الكبر]
الكبر: هو اعتقاد مطلق غير علم أن النفس تستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيرها ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة، ودليل كونه من أفعال القلوب، قوله تعالى: ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيه﴾[غافر:56].
والتكبر: هو أن ينضم إلى هذا الاعتقاد قولاً أو فعلاً أو تركاً، تنبئ على حصوله كقول إبليس لعنه الله:﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾[الأعراف:12]، فأنبأ عن اعتقاده أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه آدم عليه السلام، ومن ثم قال تعالى: ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾[الأعراف:13]، ومن ثم فسرنا التكبر بذلك.
لأن التكبر في اللغة: دعوى الأكبرية في القَدْرِ، لا الجسم اتفاقاً ولا معنى للأكبرية في القدر إلا ما ذكرناه قطعاً، إذ لا يحتمل غيره عند السبر.وأما الكبرياء: فهو استحقاق أعلى مراتب التعظيم فلا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: (وله الكبرياء في السموات والارض) وقوله تعالى: (والكبرياء ردائي) .
فرع: والتكبر قبيح عقلا لصدوره اعتقاد أمر جهل وشرعا للاجماع، والوعيد عليه كقوله تعالى:﴿فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾[غافر:76]، ونحوها، ومنه: الاستخفاف بمن لا يعلم فسقه، والترفع عن بعض ما يستحقه الوالد والامام والعالم من التعظيم كما كان ترفع إبليس عن بعض ما يستحقه آدم تكبرا، وما من مرتبة في التعظيم الا ويستحقها هؤلاء، مع صلاحهم الا ما انفرد الله به سبحانه باستحقاقه كالسجود، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد)) فنبه على أن ما دون السجود من التعظيمات مستحق للزوج على الزوجة، والعالم على المتعلم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حاكياً عن الله تعالى: ((من أراد أن يكرمني فليكرم أحبائي)) أراد العلماء، كما صرح به في آخر الخبر والإمام أعظم حقاً لأنه أمر بطاعته كما أمر بطاعة الرسول حيث قال تعالى:﴿وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء:59]، ولم يكن مثل ذلك في حق الوالد والعالم، وقال الله تعالى:﴿تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ [النور:63]، والإمام قائم مقامه، نعم فالترفُّع عن بعض ما يستحقه هؤلاء من التعظيم تكبّرٌ كتكبر إبليس عما أمر به، فأما لو تركه تسامحاً لا ترفعاً، مع عزمه على فعله لو اتهم بالأنفة عنه فليس تكبراً، اذ لا يتضيق عليه إلا عند التهمة، ومنه الترفع عن طلب العلم ممن هو أصغر منه سناً أو أقل جاهاً، والأنفة عن الجواب بلا أدري، حيث لا يعلم الجواب الموافق للحق، وعليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ترك العلم)) الخبر ونحوه، ولتضمنه الأنفة عن تعظيم المعلم حينئذ، فكان تكبراً كتكبر إبليس، ومنه الزهو، وهو التبختر في المشي إذ لا يفعله عادة إلا المتكبرون، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم، وجرَّ الذيل بطراً، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من جر إزاره بطراً)) الخبر، ويجوز الزهو للمرأة، إذ تحسن به عين بعلها، ومن ثم قال علي عليه السلام: ((خير خصال النساء شر خصال الرجال الزهو والجبن والبخل)) وقد يحسن الزهو من الرجل، وذلك عند لقاء العدو، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين تبتختر أبو دجانة عند بروزه للقتال: ((إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن)) ومنه تكلف التصدر في المجالس واختيارها ترفعاً وطلب مرتبة في التعظيم لا يستحقها.
وقد قال علي عليه السلام (ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه) ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تخطي الرقاب إلى أعلى المجالس، وكذلك طلب القرب الى مجلس السلطان ليشرف به.
فـرع: وليس منه الترفع عن مجالسة الأرذال والسّقط المتلبسين بالقبائح، لجواز الاستخفاف بهم، لا عن مجالسة المساكين الأتقياء فتكبر ققوله تعالى:﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾[الكهف:28] إلى قوله تعالى:﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾[الكهف:28]، نـزلت فيمن ترفع عن مجالستهم.
فـرع: وليس منه الأنفة عن الدخول في مهنة يسترذل صاحبها في جهتها كالحياكة، ونحوها في بعض النواحي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه)) ((إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)) ولا التحشم عن دخول الأسواق، وخدمة نفسه وأهل بيته [إن لم] يجد من يخدمه ويخشى من فعلها استخفاف الجهال به سيما حيث في حط مرتبته مفسدة في أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر فان وجد من نفسه ترك ذلك تكبراً، لا لهذه المصلحة، بل استعظاماً لزمه، كبيع النفس وإهانتها بفعلها، وكذلك ما لو خشي أن يقتدي به جاهل في الترفع عن ذلك لا لمصلحة بل استعظاماً، لم يحسن تركها.
فـرع: ولا يقبح التكبر على ذوي التكبر والتجبر لقوله تعالى: ﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾[التوبة:123]، وقول علي عليه السلام ما معناه: (إن التكبر على ذوي التكبر تواضع عند الله) أو كما قال، وقد نبه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك حيث قال: ((من تضعضع لغني لأجل غناه)) الخبر.
[جواز مدح النفس لإظهار نعمة الله تعالى]
فـرع: وليس من التكبر مدح النفس بما هو فيها لا على جهة الإفتخار، بل لإظهار نعمة الله تعالى عليها أو ليهتدى بهديها، أو لئلا يستخف بها ما لم يصدر عن الاعتقاد المذكور في حقيقة الكبر. وقد وقع ذلك عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث قال: ((أنا سيد ولد آدم)) ونحوه، ومن علي عليه السلام حيث قال: (والله لو ثنيت لي الوسادة) الخبر ونحوه، ومن كثير من الأئمة وعلماء الأمة ومن قول الشافعي:
ولستُ بإمّعةٍ فـي الرجال أسائل هذا وذا ما الخبر؟
فأما قوله تعالى:﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾[النجم:32]، فالمعنى: لا تحكموا لها بالطهارة من كل ذنب، فذلك لا يمكن أن يخبر به عن علم سيما غير المعصوم، وقد مر في ديباجة الكتاب، وقد يحسن ذلك أيضاً إرهاباً على أعداء الله وإيغاراً لصدورهم كما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين حيث قال : ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)) ومنه ما كان من الإمام المنصور بالله في كثير من أشعاره كقوله عليه السلام:
أيُنكر حقي برجمِ الّظنون وهَل يُنكر الخلق ضَوء القَمَر
أَلستُ الذي شَقَّ برد الضّلال بفكر يشقّ الحصى والشعر
وغيرذلك منه، ومن الأئمة عليهم السلام كثير، والأعمال بالنيات.
[أمور ليست من الكبر]
فـرع: وليس من الكبر قعود الإمام، أو أميره وبعض أعوانه قائم على رأسه تهيباً، لفعله صلى الله عليه وآله وسلم يوم صلح الحديبية، والخبر الوارد في ذم ذلك منصرف الى من يفعله تكبراً وتجبراً، ولا اتخاذ حاجب عليه، إذ اتخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنسا لحجابته، ورد علياً عليه السلام في خبر الطير ولم ينكر عليه، ولا اتخاذ خادم يلبسه نعليه ويحفظهما له اذا خلعهما، إذ كان ابن مسعود يتولى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عدم إنكار تقبيل قدمه، إذ لم ينكره على أهل غزوة مؤتة يوم رجوعهم.